رواية دخان pdf لـ إيفان تورجنيف

 

e7727 16b7212a 4e11 4a74 a44e 9590aea2efddعنوان الكتاب: دخان 

المؤلف: إيفان تورجنيف


المترجم / المحقق: شكري محمد عياد


الناشر: التنوير للطباعة والنشر والتوزيع


الطبعة: الأولى 2013


عدد الصفحات: 248



حول الكتاب:

حوالي منتصف القرن التاسع عشر كان يخيم على الأفق الأوروبي ظل كبير.. ظل الثورة الفرنسية ونابليون بونابرت، لقد عاد آل بوروبون إلى فرنسا كما كانوا قبل الثورة. ومات نابليون، شبه مجنون، في جزيرة سانت هيلانة، ولكن كلمة الحرية ظلت تتردد في أرجاء أوروبا فتلقفها الملايين. وعلى الرغم من ((الحلف المقدس)) وهجمات الرجعية المستأسدة فقد استمرت الثورات، كما استمرت حركات المطالبة بالحكم النيابي، فتحررت إيطاليا، وتكررت الثورات الوطنية في المجر، وبولندا، وعادت الجمهورية في فرنسا، وفرض الأحرار الألمان حكومة ديمقراطية.
وفي هذا الجو كانت ((روسيا المقدسة)) وريثة الإمبراطورية البيزنطية، وحامية الدين المسيحي، هي المعقل الأول للرجعية، وكان دور القيصرية في مقاومة الحركات التحررية دورا متعدد الأوجه. كانت تفرض على بولندا وسائر مستعمراتها في أوربا، وآسيا عبودية أبدية، وتخمد ثوراتها بعنف دموي وكانت تضع جيوشها في خدمة الرجعية الأوربية المرتبكة، كما فعلت في ثورة المجر وكانت- في روسيا نفسها- تقمع بقسوة كل نزعة فكرية تشتم منها رائحة الحرية، وكل دعوة إصلاحية تحبذ – سرا أو علانية- الحكومة الشعبية.
وفي حمى القمع والإرهاب لم تكن الرجعية تفرق بين الأفكار المعارضة لمصالحها حقيقة وبين الأفكار التي يمكنها أن تستغلها وتستخدمها. كان ((السلافوفيل)) في كثير من الأحيان يلقون من التنكيل مثلما يلقاه ((الغربيون)) مع أن السلافوفيل كانوا يقدمون للرجعية الروسية تكئة قوية لمقاومة الثورة، وأساسًا نظريا للمحافظة على القديم، فقد كانوا يذهبون إلى أن الحضارة الأوربية قد دب فيها الفساد، فلا ينبغي أن تستعير روسيا من الغرب، بل يجب عليها أن تحافظ على نظمها ((السلافية)) الأصيلة وكان خصومها الغربيون – على العكس – يدعون إلى الاقتباس من الغرب والتلمذة له، ومعنى ذلك، في ذلك الوقت، اقتباس وسائل الإنتاج الحديث، ونظم الحكم الديمقراطي، وتراث العلم العالمي وأشكال الفن المتطور.
وكان تورجنيف في هذا الفريق الأخير. وقد ذهب إلى أوربا شاباً ليدرس الفلسفة في إحدى الجامعات الألمانية، وليتنفس بحرية في جو فكري بعيد عن إرهاب القيصرية، ولكنه لم يكن ((هاربا)) ولم يكن متنكرا لوطنه، بل لعله كان في فراره من بلاده، وطنيا حاد الوطنية. وعاطفة تورجنيف نحو وطنه – وهي العاطفة التي تجلت في ((دخان)) وعبر عنها أصدق تعبير على لسان ((بوتوجين)) –تظهر في هذه الكلمات التي وصف بها حالته في صدر شبابه.
((إن الحركة التي كانت تدفع بأترابي من الشبان إلى البلاد الأجنبية كانت تعيد إلى الذاكرة صورة أولئك الصقالبة الأقدمين الذين ذهبوا يبحثون عن أمراء لهم بين ((الفارج)) وراء البحار. فكل منا كان يحس إحساسا عميقا أن ((أرضه)) (ولا أعني الوطن على التعميم بل تراث الآباء الخلقي والفكري) ((أرض عظيمة غنية ولكنها خلو من النظام)). وأستطيع أن أقول عن نفسي أنني شعرت شعوراً أليما بمساوئ هذا الانتزاع من منبتي الأصلي، وهذا القطع العنيف لكل صلة تربطني بالبيئة التي شببت فيها .. ولكني لم أكن أستطيع غير ذلك. فهذه الحياة، وهذا الوسط، وبخاصة هذه الدائرة التي كنت منتميا إليها، دائرة الأراض وأصحاب العبيد، لم يكن فيها ما يدعوني إلى البقاء .بل على العكس، كان كل ما أراه حولي تقريبا يبعث في نفسي شعور القلق والثورة، أو باختصار شعور الاشمئزاز. فلم أستطع التردد طويلا، إذ لم يكن بد من إحدى اثنتين: إما أن أخضع وأسير بهدوء في الدرب المطروق، وإما أن أنتزع نفسي دفعة واحدة، وأتخلص من كل شيء وكل إنسان، وإن أدى ذلك إلى حرماني من أشياء كثيرة حبيبة إلى قلبي.
وكان ذلك هو السبيل الذي اخترته. فألفيت بنفسي في ((الخضم الألماني)) ليطهرني ويجدد حياتي، حتى إذا خرجت من مياهه وجدت نفسي ((غريبا))، وكذلك بقيت. فلم أستطع أن أتنفس وأعيش وجها لوجه مع ما كنت أكره، ولعله كانت تعوزني السيطرة على النفس وقوة الشخصية اللازمتان لذلك. كان علي أن أبتعد عن عدوي مهما يكن الثمن، كي أسدد إليه عن بعد ضربات أشد قوة. وقد كنت أرى لهذا العدو وجها واضح القسمات، وكان له عندي إسم عروف. كان عدوي هو حق الاسترقاق. وتحت هذا الاسم جمعت كل ما كنت عازما على مصارعته إلى النهاية، كل ما أقسمت على محاربته بغير مهادنة. كان ذلك عندي هو قَسَم هانيبال. ولم أكن وحدي صاحب هذا القسم. وذهبت إلى الغرب كي أبَّر بقَسَمي..)).
حوالي سنة 1847 كان تورجنيف في روسيا. وبدأ ينشر صورا من حياة الفلاحين كانت معولا من المعاول القوية التي وجهت إلى نظام الرقيق. وكانت قوتها في واقعيتها الإنسانية التي أظهرت هؤلاء الفلاحين الأرقاء، لأول مرة في تاريخ الأدب الروسي، في مشاهد حياتهم العادية القاسية، وصورت آمالهم وآلامهم، فكأنها نبهت إلى أنهم بشر كغيرهم من الناس، وقد جمع تورجنيف هذه الصور في كتابه ((مشاهد من حياة صياد)) (1852) وعوقب بالنفي إلى الريف. ولكن الرجعية لم تستطع أن تمضي في استبدادها إلى النهاية. فإن الفلاحين أنفسهم بدأوا يثورون، وتكررت حوادث العصيان الجماعي حتى بلغ عددها في سنة 1848 وحدها أربعة وسيتن. وأدت سياسة القيصر نيكولاس الأول العدوانية إلى حرب القرم سنة 1854 ضد الدولة العثمانية، وحاربت إنجلترا وفرنسا في صف العثمانيين وهُزمت روسيا هزائم متلاحقة حتى اضظر القيصر ألكسندر الثاني الذي تولى العرش سنة 1855 إلى عقد الصلح بعد خسائر جسيمة لم تحصل البلاد من ورائها على أي فائدة. ثم بدأ سلسلة من الإصلاحات كان أولها وأهمها إلغاء الرق سنة  1861، وجاءت بعد ذلك قوانين التجنيد الإجباري، وفتح الجامعات أمام أبناء الشعب، وإدخال نظام المحلفين في المحاكم الروسية، ولكن الرجعية كانت تنظر شزرا إلى هذه الإصلاحات، وتحيطها بمختلف العراقيل ولم تلبث أن كشفت وجهها ثانية، ففي سنة 1865 رفض القيصر طلب النبلاء تأسيس مجلس نيابي، وتلا ذلك تعطيل الصحف الحرة، وإذاعة منشور رسمي يدعو الشعب إلى ((مقاومة الأفكار الخبيثة التي تهدم الدين والنظام والملكية الخاصة)). وبينما كانت الرحعية تشدد قبضتها بدأ الفكر الروسي يتحول من التحرر إلى الثورة. وكما هي العادة دائما في مثل هذا التحول امتلأت أجواء المثقفين بالبدع الفكرية والدعوات الكاذبة والمغامرات الصبيانية. وكان هذا هو الجو الذي كتب فيه تورجنيف ((دخان)) سنة 1868.
صور تورجنيف في ((دخان)) جماعات من المغتربين الروس في مصيف ألماني. فصور المجتمع الأرستقراطي بأناقته وتفاهته وفراغه وانحلاله. كما صور منتديات أكثر شعبية، منتديات أدعياء التحرر بمناقشاتهم العقيمة وخضوعهم الأعمى لشعار أو قائد. والتقط عيوب هؤلاء وأولئك بعين نافذة خبيرة، وصورها بدقة حفار، فجعلها نماذج رائعة للهجاء الواقعي. على أن هذه الصور ليست مجرد هجاء سياسي، بل إن وراءها إحساسا مرا، إحساسا تراجيديا بضياع الجهد الإنساني واضطراب الفكر الإنساني، وغموض المصير الإنساني وقد لخص الروائي هذا الإحساس في عنوان الرواية ((دخان)) الذي أخذه من هذه الفقرة قرب الخاتمة، وهي تذكرنا تذكيرا قويا بسفر :
((وجعل ينظر من نافذة القطار. كان الجو أغبر رطبا، لا مطر فيه، ولكن الضباب لا ينكشف، والسحب الدانية تحجب السماء. وهبت الريح في مواجهة القطار، فاندفع أمام النافذة التي جلس إليها لتفينوف موكب متلاحق من أمواج البخار البيضاء، بعضها خالص وبعضها ممتزج بسحب الدخان القاتمة. وأخذ لتفينوف يراقب هذا البخار والدخان. كانت السحب تمر بعد السحب، ولا تزال تصعد، وتعلو وتهبط، وتتلوى وتتعلق بالأعشاب والشجيرات، وكأنها تلعب في إحدى المساخر. ثم تتمدد وتذوب في الفضاء.. كانت تتبدل دائما وهي لا تزال كما هي .. لعبة سريعة سخيفة مكررة ! وكانت الريح تتغير حين ينحرف الخط يمنة أو يسرة، فيتلاشى الرعيل كله فجأة، وسرعان ما يبدو مرة أخرى من النافذة المقابلة. ثم ينتشر الذيل الضخم مرة أخرى فيحجب عن بصر لتفينوف سهل الرين الفسيح. حدّق وحدّق، واستولى عليه شرود غريب.. كان وحيدا في المقصورة، لم يكن هناك من يزعجه، فردد مرات عديدة: دخان .دخان. وفجأة بدا له كل شيء دخاناً – كل شيء: حياته هو، والحياة الروسية، وكل ما هو بشري، وعلى الخصوص كل ما هو روسي. الكل دخان وبخار – هكذا قال لنفسه – كل شيء يبدو دائم التغير، وفي كل مكان أشكال جديدة، أحداث بعد أحداث، وكل شيء كما هو في الصميم. كل شيء يسرع طائرا إلى وجهة ما، وكل شيء يتلاشى من دون أن يترك أثرا أو يبلغ أمرا وتتغير الريح، فيسرع كل شيء في الاتجاه المضاد، وهناك تبدأ نفس اللعبة المستمرة العقيم. وتذكر الكثير مما شاهده بنفسه في السنوات الأخيرة من أحداث أحيطت بالضجيج والتهريج، فهمس: دخان، دخان. و تذكر الجدل العنيف والصياح والنقاش عند جوباريوف، وعند أناس أخرين منهم الشبان والشيوخ، والبسطاء والعظماء، التقدميون والرجعيون .. فردد. دخان، بخار ودخان. وتذكر أخيرا تلك النزهة الأنيقة، وتذكر خطبا وتصريحات وأشخاصا آخرين يعدون أنفسهم لأكبر المناصب، حتى كل مواعظ بوتوجين .. دخان، دخان، ولا شيء أكثر من دخان وجهوده وعواطفه وآلامه وأحلامه؟ لم يستطع لتفينوف إلا أن يلوح بيده في قنوط.
ولكننا ننسى أن ((دخان)) رواية وليست سياسة. فالسياسة في ((دخان)) كما هي في معظم الروايات، مرتبطة بقصة حب، والكاتب البارع هو الذي يجعل الحب والسياسة في وحدة، فتتداخل الحوادث السياسة في حوادث الحب، وتؤثر فيها، وقد تتأثر بها. ولكن الكاتب الأبرع لا يحتاج دائما إلى اصطناع مثل هذا الرابط في العقدة – وكثيرا ما يكون متكلفا – بل يقدمهما معا كعنصرين في جو واحد، ويحقق التلاؤم بينهما بمبادئ شكلية غير تسلسل الحوادث التي يؤثر بعضها في بعض. وهذا ما نجده في ((دخان)).
فلتفينوف، الشاب الأمين المثابر الطي يقع تحت سلطان عاطفة غشوم مستعرة نحو امرأة أرستقراطية نارية، وهو في الوقت نفسه قد خطب قريبة له يتمثل فيها نموذج الفتاة الطيبة الحنون في أسر نبلاء الريف المتوسطي الحال – لتفينوف لا يشارك في المناقشات السياسية وغيرها إلا متفرجا، ولا يحتك بالشخصيات الأرستقراطية أو بأدعياء التحرر إلا مرغما. لأنه ((إن شئت الحقيقة ليس لي آراء سياسية)). على أن الحقيقة هي أنه ضنين باستعمال كلمة السياسة لمثل هذا الضجيج المتنافر الذي يسمعه عند أدعياء التحرر وأقطاب الأرستقراطية جميعا. ولكن كبرياءه الشعبية النظيفة تثور إذا سمع هجوما على حق الشعب في التعلم أو في التملك أو في الحرية. إن السياسة عنده تتلخص في كلمتين : ((الحرية والعمل)). وحين يعود إلى بلاده يجد أن أراءه هذه التي رفض أن يمسيها أراء سياسية كانت أقرب إلى الصواب من كل ما سمعه من أولئك الثوريين الذين تنكروا لمبادئهم بعد قليل. فقد كانت المبادئ الجديدة (مبادئ الإصلاح) لم ترسخ أصولها بعد، والمبادئ القديمة فقد فقدت كل قوة. كان الجهل يرتطم بالخيانة، ونظام الحياة الذي اهتز من أساسه يضطرب كوحل زلق، ولم تكن هناك إلا كلمة واحدة عظيمة ترف كروح الله على الماء: ((كلمة الحرية)) . ولعل هذا هو الدرس السياسي الذي أراد تورجنيف أن يؤديه في ((دخان))، ولكن هذا الدرس والأجواء السياسية التي مهدت له، لا تكاد تتصل بالقصة العاطفية بالمعنى الشائع من الاتصال وهو التأثير المتبادل بين نوعين من الأحداث. فكيف ربط تورجنيف بينهما؟
إن الرباط هنا رباط شعوري يظهر في الفقرة التي سبقت الإشارة إليها. لقد فكر لتفينوف في ((جهوده وعواطفه وآلامه وأحلامه)) بعد أن مرت بمخيلته ذكريات الأحداث السياسية التي أحيطت بالتهريج والضجيج، والجدل العنيف والصياح والنقاش عند أناس كثيرين منهم الشبان والشيوخ، والبسطاء والعظماء، والتقدميون والرجعيون. كأنما ((جهوده وعواطفه وآلامه وأحلامه)) كانت تحمل، عن غير وعي منه، صدى هذا الضجيج والجدل العنيف. وكأن الرواية كلها تمثل أمل تورجنيف في أن تخرج بلاده، أن يخرج أحرار بلاده من الضجيج السياسي إلى العمل الصبور المثمر، كما خرج لتفينوف من ضجيجه العاطفي إلى حب عطوف مستقر. ولابد لهذا الخروج من تضحيات. لا بد من تضحية وهج العاطفة، ونشوة البطولة، وسكرة الحلم، من أجل حقيقة أكثر ثباتا، ولا بد للروائي إذن أن يضحي بقمة شامخة مثل ((بازاروف)) بطل ((الآباء والأبناء)) التي كتبها سنة 1862،ليجعل بطله في ((دخان)) نلا صغيرا، هو لتفينوف. وهذه هي الملاحظة التي أبداها الزعيم الثوري بيساريف – على سبيل النقد للتعبير عن الجوهر التراجيدي في روايتنا هذه. الحياة تتقدم، ويجب أن تتقدم. وين تتقدم الحياة يكسب الأحياء، ولكي يكسبوا يجب أن يخسروا. لن يعرف لتفينوف مع تاتيانا تلك النشوة التي وجدها بين ذراعي إيرينا، ولكنه سيذهب إلى تاتيانا. ولن يصنع الشعب الروسي معجزة بين عشية وضحاها ولكنه سيتقدم بمثابرة وصبر ليؤدي دوره المقسوم. هذه هي حكمة تورجنيف في ((دخان))، وهي حكمة كسبها، في مجال التفكير السياسي والعاطفة الشخصية على السواء، بتجربة السنين المريرة. لقد هاجر تورجنيف في شبابه ليستطيع أن يضرب عدوه بقوة أكبر، ولكنه اعتاد بعد ذلك أن يقيم بعيدا عن وطنه، ولعله كان ينزلق أحيانا إلى مناقشات جوفاء عن مستقبل روسيا كتلك المناقشات التي يصورها في ((دخان)). وقد أحب تورجنيف المغنية الفرنسية الأسبانية بولين فياردو، أحبها بلا سعادة، كما أحب بوتوجين إيرينا، من شبابه إلى كهولته، ولم يستطع قط أن ينجو من أسر هذه العاطفة الجبارة كما نجا لتفينوف.
وحين جاءته فكرة ((دخان)) وهو يدلف إلى الخمسين، لم يستغرق في كتابتها وقتاً طويلا، وكأنه وجد سريعا البديل الموضوعي لحالته النفسية. ومع أنه شكا في بعض خطاباته من الصعوبة التي وجدها عند بدء العمل، لطول انقطاعه عن الكتابة قبل ذلك، فإننا نجد فيها فنه الكامل، الذي جعل ((تين)) يقول عنه : ((أنه أعظم فنان عرفته أوربا منذ سوفوكليس)). فمهما سخر أو هجا فإن شخصياته تظل حية حياتها الخاصة، ولا تتحول قط إلى صور خشبية. ومهما ملأ حواره السياسي بالإشارات إلى حوادث معاصرة فإنه يعرف كيف وأين يضع هذا الحوار ليظل جزءا متمما لبناء الرواية الفني، وإن نسيت المناسبات التي يشير إليها. ويستطيع القارئ أن يمر بالهوامش التي أضفناها إلى هذه الترجمة ليتمثل الجو التاريخي للرواية، ويستطيع أن يتركها من دون أن يحس أنه ترك شيئا لا بد منه لفهم الرواية نفسها. فالمناقشات السياسية والاجتماعية الخارجة عن الأحداث الرئيسية تؤدي وظيفتها الفنية الكاملة عن طريق التقابل وتخفيف التوتر والهارمونية، وما إليها من مبادئ شكلية أخرى يمكن أن تكون محلا للدراسة المفصلة، وتفهم في ضوء هذه التقابلات وإن لم يتحدد كل ما تشير إليه.
أما شخصية إيرينا فهي كما يقول عنها الناقد الإنجليزي أدوارد جارنت : ((إن سر هذا الخلق الممتاز هو أنها تجمع بين الخير والشر على سواء حتى لتبدو النسوة الخيرات بجانبها تافهات والنسوة الشريرات مصنوعات. وقد حبتها الطبيعة فتنة آسرة يزيدها الخيال بذلك الموقف الذي يستجد بينها وبين لتفينوف. فهي ترغب في السمو رغبة صادقة وتود لو تبلغ مثل الحب الأعلى الذي يتصوره قلب المرأة. ولكنها لا تقوى إلا على هدم الرجل الذي تحبه.. هل تستطيع أن تكون له بديلا من تاتيانا ؟ كلا، أنها لا تستطيع أن تكون كذلك لأي رجل، فقد خلقت لتفسد من دون أن يمسها الفساد، وأنها لتسترد سلطانها على نفسها بعد لحظات اللذة الأولى، وأنها لتظل مشتهاة وإن لم تمنح قلبها كاملا للحبيب)).
هذه الشخصية مليئة بالحياة. ومع ذلك فقد نتساءل: هل مصدر هذه الحياة  أن لها شخصيتها الفردية المتميزة التي نتمثلها في مواقف الهوى والغيرة والعناد والكبرياء والاندفاع والخيانة، أم مصدره نموذج خيالي عام للمرأة الخالدة التي ترمز للحياة نفسها: ((المرأة التي تفسد من دون أن يمسها الفساد.. وتظل مشتهاة وإن لم تمنح قلبها كاملا للحبيب؟)) إن الجمع في إيرينا بين طرفي الخصوص والعموم مثل من أمثلة فن تورجنيف الناضج، وهو وحده كفيل بأن يحفظ لهذه الرواية مكانة ممتازة بين ذخائر الأدب الخالد.
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *